الخيال العلمي ومستقبل الوعي الإنساني
مفهومان للخيال العلمي: الخيال العلمي كفن من فنون الكتابة, وهو فن روائي مستحدث في القرن العشرين, وليد الوعد الذي بشرت به الطفرة الهائلة في مجال تقدم العلوم والتقانة في عصر الصناعة, وآثار تلك الابتكارات القائمة والمحتملة, سلبا وإيجابا, على حياة المجتمعات والأفراد والبيئة.
وتمثل الاكتشافات والتطورات العلمية الفعلية والمتخيلة, خلفية العمل الروائي للتكهن بالإمكانات العلمية مستقبلا وبواقع حال المجتمعات والأفراد والطبيعة. وعرف أدب الخيال العلمي أسماء أدباء وسينمائيين ومفكرين عديدين من أمثال ألدوس هكسلي, وهربرت جورج ويلز, وعظيموف, وماريون زيمربرادلي, وكليف ستابلس لويس, وستابلدون وليام أولاف. وكانت لكتاباتهم تأثيرها الكبير في الخيال العلمي الحديث الذي عرف طريقه إلى الإخراج السينمائي.
الروائي والعالم: بين المغامرة المعرفية والطفرة الحضارية
وأدب الخيال العلمي هو خيال لروائي مثقف علميا, متابع لإنجازات العلوم, مجذوب مبهور باحتمالاتها, وتغدو كتاباته مسرحا تنطلق عبره خيالاته طليقة العنان بين الكواكب وفي الأعماق ومع الكائنات, وإن اتخذ من إنجازات العلوم منطلقا له مبشرا بوعد العلم أو منذرا بوعيده. ويفتح بكتاباته آفاق الكون ميسورة لخيال ومدارك العامة, ليتحد الإنسان مع الكون الذي يغدو على اتساعه اللانهائي بيئة مألوفة له, وموطنا يسكنه ويسكن إليه, ويتحرك فيه مؤمنا بقدرته على الفعل والتغيير. ويتميز أدب الخيال العلمي باتساع آفاق مداركه, واندفاع رغباته نحو البحث والمغامرة المعرفية, والسباحة بخياله, وربما بفعله مستقبلا, في أجواء الفضاء وأعماق الكون. إنه قارئ عصر حضارة الصناعة والمعلوماتية على عكس قراء تهويمات القصص عن عالم سفلي أو عالم الجان الذين يتطلعون إلى الكون في خوف ورهبة وضعف وسلبية.
وقد يكون الخيال العلمي, وهذا هو المعنى الثاني, خيال العالم الباحث. ومثل هذا الخيال حافز ومقدمة للإبداع, وهادٍ ومرشد لطريق البحث العلمي, وتعبير صادق عن حلم يغدو علما في المستقبل... ربما المنظور... أو ليبقى نقطة بحث في جدول أعمال البحث العلمي. هكذا كان خيال الإنسان بشأن اختراع طائرة مثلا, أو خياله بشأن النقل الإذاعي عبر الفضاء, وكذا خياله في القرن العشرين بشأن شبكة اتصالات عبر الأقمار الاصطناعية وهو ما تطور وتجسد في صورة شبكة الإنترنت, أوخيال راهن بشأن إنسان المستقبل.. الوعي والمعرفة, واتحاد وعي الإنسان بالتقانة, ودخول عصر جديد يصفه الخيال العلمي بأنه عصر ما بعد المعلوماتية أو عصر التقانة الواعية.
إن العالم في بحثه النظري أو المعملي يسبقه خياله المؤسس على المتوافر لديه من إمكانات وإنجازات, وبذا يكون خياله هنا خيالا علميا وإن لم يصغه في نسيج روائي.ويمثل الخيال العلمي هنا الوقود الروحي لقوى الابتكار التي تضع حلولا لمشكلات الحاضر, أو تنطلق بالإنسان ماديا وعقليا ومجتمعيا إلى مستقبل يتجاوز حدود وقيود الواقع الراهن. ومن ثم يكون الخيال العلمي عمليا سبيلا لطفرة تطورية تجسد نقلة حضارية ترتقي بالإنسانية.. أو هكذا ينبغي أن تكون, ما لم تفسده مخاطر وأطماع وشهوات الصراع الإنساني.
والخيال العلمي بأي من المعنيين مشروط اجتماعيا من حيث الميلاد والنشأة والنضج والشيوع. إنه وليد واقع اجتماعي منتج للعلم, سبّاق في مضمار المنافسة بين أحلام العلماء ومشكلات واقع حياة المجتمعات. وهو في غير مجتمعات العلم لطيم يتيم غريب, إن لم نقل غير موجود. وإن تيسرت قراءته ترجمة, فهو تزجية فراغ وتجل لمعجزات, وليس عدة باحث يرى الفعل العلمي والعقل العلمي أداة إنجاز وتحقيق أحلام.
الخيال العلمي وعلوم المستقبل
والخيال العلمي غير علوم المستقبل... ذلك أن علم المستقبل تخطيط لممكن تأسيسا على إنجازات واقع مدروس في ضوء مناهج بحث لعلوم متداخلة, وتأسيسا على احتمالات تكاد تصل إلى حد اليقين بفضل تطوير ما هو ميسور من إنجازات التقدم العلمي التقاني. ولكن الخيال العلمي, خيال العلماء, حلول مأمولة انطلاقا من البحث العلمي الدءوب, ومن خيال طليق يطوع الواقع... الممكن أداة في أيدي أهل النظر والسياسة والتخطيط, والمأمول حلم يراود العالم ويتحدى به الممكن ليتجاوزه, وربما تنفتح عليه أبواب وتتهيأ قدرات لم تكن في الحسبان.
ومن أمثلة هذا الضرب من الخيال العلمي أوخيال العلماء كتاب بعنوان: (عقل المستقبل - الذكاء الاصطناعي), تأليف جيروم كلايتون جلين, والذي كان مصدر وحي وإلهام لمدارس فكر فلسفي, ولأحلام علماء معنيين بالسيبرناطيقا والاتصالات. والكتاب في واقعه أقرب إلى الخيال العلمي, ورؤية علمية لمستقبل الإنسانية تأسيسا على وقائع وإنجازات العلوم الآن واحتمالات المستقبل المتمثلة في تجاوز عصر المعلوماتية إلى عصر ما بعد المعلوماتية... عصر التقانة الواعية, ونتائج ذلك على الإنسان والمجتمع والاقتصاد والسياسة.
التقانة الواعية
يوضح جلين أن المجتمعات الصناعية يسودها اعتقاد بشأن المستقبل يتمثل في أن البشر سيندمجون مع التقانة, وأن التقانة ستندمج مع الوعي. وأصبح بإمكان التقانة الآن أن تحاكي خصائص المعرفة عند البشر, وخصائص تركيب الصوت, والبرمجة الذكية للكمبيوتر. وسوف تجري صناعة أدوات وأجهزة متناهية الصغر نستخدمها ملحقات لأجسام البشر سواء لاستبدال أعضاء أو لمضاعفة القدرات. وهكذا تختفي تدريجيا مظاهر التمايز والاختلاف بين البشر والآلات. وتظهر التقانة الواعية ويبدأ معها عصر حضارة التقانة الواعية أو عصر ما بعد المعلوماتية. ويمكن فهم التقانة الواعية على أنها, حسب رأيه, نظرة إلى العالم ترى أن الحضارة تتطور في صورة متصل تقاني بشري, عن طريق اندماج التقانة مع أجسادنا, واندماج أجسادنا مع التقانة, وبذا تتوحد نظرة الفيلسوف الباطني والتقاني إلى العالم. ويرى أن تكوين تقانة متناهية الدقة والصغر لاستخدامها في أغراض علاجية أو لمضاعفة قدرات البشر يمثل اتجاها قويا نحو سبرجة الإنسانية, أي ظهور ما يسميه السيبورج أو الإنسان التقاني (الإنسقاني) حيث تتحد التقانة مع جسم الإنسان لأداء الوظائف الحيوية.
ومع زيادة معارفنا بشأن النمو الحيوي وكيفية محاكاته, سوف نعيد تنمية أجسامنا على نحو جديد, بدلا من عمليات الزرع الإلكتروحيوية, وهكذا تظهر كائنات فائقة القدرة. وليس هذا بغريب, حيث إننا الآن نصنع تقانة متناهية الصغر لتأدية مثل هذه الوظائف وكأنها ملحقات مكملة لأجسامنا, شأن منظم القلب. ويتوقع الوصول إلى تقانة تضاعف من قدرات أجسادنا, من ذلك: - زرع رقائق عصبية لتكون أدوات وصل إلكترونية مع الخلايا العصبية للمرء وتتصل بكمبيوتر. - زرع رقائق حيوية من مركبات عضوية وتؤدي الوظائف الحيوية العادية.
- شجرة المعرفة التي تجسد هذا العالم المتفاعل من الاتصال المشترك الحاسوبي والسمعي والبصري وأجهزة الاستعادة. ذلك أنه مع استخدام التقانة متناهية الصغر, ومع دمج المنظومات التقانية, وتوافر قابلية النقل والاتصالات وأدوات الاستشعار البيولوجية سوف تنشأ حالة ربط تربط المرء بالعالم بحيث يتمكن من الاتصال بكل من وما يريد الاتصال به.
شجرة المعرفة
إن شجرة المعرفة بهذا المعنى ستكون منظومة اتصال واستعادة متموضعة وشاملة العالم كله.
وهي منظومة حاسوبية وسمعية وبصرية عبر أقمار اصطناعية فائقة القدرة وتعمل مع أجهزة استقبال ذات قوة منخفضة محمولة بحيث يمكن نقلها وضبطها وملاءمتها للتركيب على هاتف أو راديو أو تلفزيون. وسوف تكون شجرة المعرفة هذه هي جواز السفر الحقيقي للمرء إلى المنظومات الكوكبية.
وتساعد على توسيع نطاق المعرفة والاتصال للمرء, ومن ثم نشوء علاقات متنوعة علاوة على زيادة تعقد وشدة الخبرة البشرية وتفاعلاتها على نطاق كوكبي. إنه إنسان فائق القدرة (سيبورج) معرفيا وفكريا أيضا.
وإذا كانت شجرة المعرفة هي جواز سفر المرء, فإنها هي وتقانة الوعي ستخلق إنسانا جديدا من حيث القدرات المادية والمعرفية والفكرية هو السيبورج - الإنسان فائق القدرات - مع توحد الجسم والأفكار. ولن ينتمي إلى هذا المحيط ويفيد به وينعم بثرائه إلا إنسان أو مجتمع استطاع بفضل مساهماته العلمية التقانية أن يتجاوز واقعه الراهن. ولن يتجاوزه إلا من ينتمي عضويا إلى شجرة المعرفة, جواز السفر الجديد. إنه إنسان وسعت قدراته المعرفية والفكرية أطراف الكون, يعيش شبكة كونية يتفاعل ويتواصل معها بفضل رصيده من فكر, ورصيده من فعل ونشاط, ورصيده من أحلام المستقبل, أي الخيال العلمي. ويرى البعض هذا بشيرا لحياة أفضل, ونذيرا للمجتمعات التي آثرت التواكل.
ويقول جلين إن الأفكار تدفع وتصوغ مستقبل العلم والتقانة, ولكن الكيفية التي نسوس بها الأفكار هي التي تحدد معدل ونوع الاكتشافات العلمية, مما يعني تطوير منهج جديد لإبداع وإدارة الأفكار. يضاف إلى هذا بنوك المعرفة والمعلومات التي تختزن الأفكار وتنظمها في صورة نسقية أو في صورة علم لقوانين الفكر سوف تجعل جهدنا في إدارة الأفكار أمرا سهلا, وسوف يكون للقائمين بإبداع وتنظيم واستثمار هذه الأفكار قدراتهم الفائقة بفضل امتلاكهم لهذا الرصيد وقدرتهم على إدارته وتغذيته. وطبيعي أن الاندماجات الجديدة بين الوعي والتقانة, وربط قواعد وقوانين المعلومات المستقبلية بشبكات الكمبيوتر الدولية وشجرة المعرفة الكوكبية, كل هذا سوف يؤدي وبشكل جذري إلى سرعة توليد وتحليل أفكار جديدة ومهولة من حيث الكم, ومتلائمة مع قدرات السيبورج, الإنسان المتحد مع التقانة المجسدة في الوعي الكوكبي... أو العقل الكوكبي المتفاعل مع الأفراد بإمكاناتهم الجديدة التي هيأها العلم والتقانة. وهنا يكون عقل المرء عقدة وصل عصبية داخل شجرة المعرفة. وجاء هذا الخيال منطلقا لمدرسة علمية فلسفية معاصرة تحمل اسم مشروعها الطموح أو مشروع المبادئ الأساسية للسيبرنية. وتعكف المدرسة على دراسة مستقبل التقانة والعقل في المجتمع, وهو ما سوف نعرض له في مقال آخر. ودفع هذا الخيال العلمي مفكرين آخرين من أمثال جون بي. كلعون إلى بحث إمكان بناء ما يسميه الإضافة المخية, أي إضافة رقائق عصبية تقانية مكملة للمخ. ويتنبأ بأن أجهزة تماثل الكمبيوتر ومنظومات متشابكة ومتداخلة من هذه الأجهزة سوف تحاكي الوظيفة البيولوجية للمخ, ومن ثم معالجة أكثر كفاءة وفعالية لمنتجات فكر المخ البشري, ومعالجتها لاستخدامها مرة ثانية في التأمل البشري وتهيئة إمكانات لطفرات حضارية متوالية.
برمجة المخ
ويرى مفكر آخر هو تيموثي ليري أن التاريخ في جوهره هو الخيرر بين الجهاز العصبي المركزي وبين الدنا DNA. ومن ثم فإن الكشف عن أسرار (الدنا) من بين القضايا الأساسية في البحث من أجل إعادة ابتكار الحياة بفضل إنجازات الهندسة الوراثية. ويؤكد أن الدنا تصنعنا تاريخيا, ولكننا نتقدم باطراد من أجل إعادة صنع وصوغ الدنا تماما مثلما نصنع الكمبيوتر والروبوت وإذا بهما يعيدان صنعنا, أي تنقلنا التقانة إلى حياة جديدة الصياغة والقدرات والآفاق.
ومثل هذه الحياة المتخيلة والممكنة سوف تخلق إطارا فكريا/ثقافيا لبرمجة مخ الإنسان على النحو الذي نبرمج به الكمبيوتر. وليس في هذا جديد من حيث النهج, حيث إن دور الثقافة الاجتماعية تاريخيا هو برمجة المخ على أساس ما نسميه فضائل نلتزمها ورذائل نتجنبها ونصوغ ما نسميه الضمير.
لهذا, فإن الاستعداد لحياة المستقبل يستلزم ما يصفه جلين بعبارة كهربة التعليم, أي إحداث تغيير ثوري جذري في التعليم وصولا إلى تعليم يخلق أذكياء..أي المُنْتَج هو الذكاء. ويقول ناقدا حياة الغرب التعليمية: إن خطأنا الأساسي أننا ندفع مقابل مدخلات تعليمية ولا ندفع مقابل مخرجات تعليمية... وأهم هذه المخرجات الذكاء... والقدرة الإبداعية... وخلق الحافز الذي يحفزنا لكي نكون أذكياء ذوي مناعة ضد وسائل الحروب الجديدة. إن الصراع قاعدة الحياة. وإن الحروب بين المجتمعات كان هدفها في عصر الزراعة السيطرة على الأرض. وكان هدفها في عصر الصناعة السيطرة على رأس المال الإنتاجي وعنصره. ولكن الحروب في عصر المعلومات هدفها السيطرة على العقول. وإذا استطعت أن تجعل العالم يغير عناصر مدركاته وتفكيره ليفكر على نحو ما تريد أنت, إذن لا حاجة للغزو بجيش بري, والنصر لزاما للأقوى علميا وتقانيا, للأذكى المشارك عضويا في حضارة المستقبل. إنه سيد حضارة العصر الجديد, حضارة عصر التقانة الواعية أو عصر ما بعد المعلوماتية والمتحكم في شجرة المعرفة. وهنا مناط التمييز والتمايز بين خيال علمي حافز وتخييلات أو تهويمات مفارقة لا تضع أقدام أصحابها على أرض الواقع.
عن مجلة العربي الكويتية